عمار المرواتي: الحياة باقية رغم الظلاميين الذين دمروا مدننا

المقاله تحت باب  مقالات و حوارات
في 
12/12/2014 06:00 AM
GMT



على الرغم من الظروف التي يعيشها أبناء الموصل عموماً، والمثقفون على وجه الخصوص، إلا أن عمار أحمد الذي لا يقبل إلا أن يلقب بـ«المرواتي» ما زال يعيش في عالمه الخاص، يقرأ ويكتب ويتواصل مع أصدقائه عبر العوالم الافتراضية، لأن العالم الحقيقي أصبح بعيداً عنه تماماً، بعد أن دمر «داعش» كل شيء في مدينته الحبيبة، فقرر أن يعيش لكتاباته ولمنجزه الذي لا يتوقف.
المرواتي الذي أصدر أكثر من كتاب خلال السنوات السابقة بما سماه «المرواة»، فعرف بهذا النوع من الكتابة بعد إصداره أكثر من كتاب فيه، منها» «أنت موسيقاي أو «هذا البياض المحنـّك»، «مجموعة مَراوٍ» و»بي ـ آبو ـ نان والجوائح»… لكنه مع هذا يرفض أن يعد المرواة جنساً، لأنها فضاء للحكي المختلف الذي يسير على الحد الفاصل بين الشعر صورة ومخيالا، والنثر تفكيراً والقص تشكيلاً..
لم يتوقف المرواتي عند المرواة والشعر، بل عرف باشتغاله على ما سماه بـ»ألحونات»؛ ومفردها ألحونة، من قبيل قصة وأقصوصة، فأنجز أكثر من عمل بتلحين قصائد نثر وتفعيلة خلال السنوات الماضية، فضلاً عن تلحينه النشيد الرسمي لجامعة الموصل.
وبعد هذه الأعمال، أصدر المرواتي مؤخراً مرواةً بعنوان (عموراتي) عن دار مومنت، وله رأي مختلف في إنجازها:

■ لماذا عَمُوراتي.. وكيف اشتققت؟
□ عموراتي: عمور.. عموري الطفل الذي ما زال يتوهج فيّ، ومَرْواتي اسمي وصفتي من مشغلي، وحمورابي بما تحيل عليه تركيبة المفردة فثمة تعاليم وتوصيات يوجه بها المرواتي ويوصي مانحاً السرد طاقة تعبير وتخييل أخرى؛ لأن الموجَّهين والموصين ما كانوا دائما شخصيات آدمية.. للعنوان أهميته في فن المرواة التسريدي فهو عين غيمة على نحو مكثف ودقيق ينفصل مكتفيا باكتنازه وفجائيته بالقوة التي يرتبط بها بالمرواة نصاً.
■ عرفت باشتغال خاص من خلال ما سميته المرواة، ما الذي تريده من خلال هذا الفن؟ وكيف يمكن أن نفهم علائقه بين الحكاية والشعر؟
□ السرد منجز لغوي ينتظم انتظاماً تحدده خصوصية المؤلف بوصفه ذاتاً مستقلة تتسم بأسلوب ما، ثم ما يلبث أن يتبناه راوٍ، هو ذات متشكلة من وعي المؤلف الذاتي الخاص ووعي موضوعي، هو ذاك الوعي الجمعي، شكلاً ومفاهيم ودلالات؛ ليقدم به حكاية تتشكل وفق سياقات فنية لتتحول إلى قصة، وأقول قصة؛ لأن هذا المصطلح هو الإطار الأشمل لنصوص وخطابات تتموضع أجناساً عديدة هي المسرحية والرواية والقصة القصيرة والقصة القصيرة جداً، وأصلها كلها الحكاية من حيث هي النشاط السردي الأول للذاكرة الجمعية.
إن هذه الأجناس جميعاً ظلت عبر تاريخها متمسكة بدلالة القص الأولى (الإخبار). ونلاحظ أن القص في العربية هو الحديث بأخبار الأولين، والوقائع التاريخية والأحداث الأولى، بأيامها وأعلامها (الآية القرآنية: نحن نقص عليك أحسن القصص) والحال نفسه في الإنجليزية، HISTORY، فحذف الحرفين الأولين يحول المفردة إلى قصة ) STORY ) وفي كل مراحل هذا الفن كان الفرق بين منجز ومنجز محصوراً في التميز، وفي التلاعب بأسماء الشخصيات، وعددها، وطبيعة الأحداث، وظلت بنية الزمن محدداً مهماً لطبيعة الجنس.
إن اللغة التي كتبت بها الأعمال القصصية كانت حاملاً فقط، لأنها ظلت أسيرة الاعتقاد بأن اللغة محكومة بوظيفة نسج العلاقات بين الشخصيات، وما دورها إلا تقديم الأمكنة المنعكسة من الواقع الخارجي، بما يحقق الإيهام بأن الواقع النصي مماثل للواقع المنعكس عنه، فضلاً عن أن الأحداث التاريخية الكبيرة، كانت توظف للغرض نفسه، لاستكمال حياة نصية موازية، تستطيع القصة بها تقديم رؤيتها للواقع، محللة تحليلاً نفسياً واجتماعياً وسياسياً.
تعددت بدايات تلك النصوص، واختلفت طرائق بناء أزمنتها، إلا أنها ظلت تستند إلى الاستهلال، وهذا ما انعكس على كل الأعمال الدرامية التي استندت إليها؛ لأن في الاستهلال تهيئة، تستدرج القارئ العام المتواطئ معها، فهي تكتب له، ونجاحها من رضاه وتواصله، بغض النظر عن مستواه الثقافي؛ بعبارة أخرى كانت الأعمال القصصية، متواطئة مع القارئ الخامل على نحو ما، ولكن الكارثة الأكبر هي عزوف هذا القارئ نفسه عن القراءة كلها، فهي فاشلة في التواصل مع الساعين إلى الاختلاف أصلا، وعافها المتواطئ الذي تستهدفه، وتسعى إليه، فظل حتى السؤال القديم (ماذا تكتب؟) عائما لغياب فعل القراءة نفسه، وصار غريبا جدا السؤال الجديد (كيف تكتب؟).
■ لكن كيف يمكن تفهُّم وضع الكتابة الآن؟
□ إن الكتابة على نحو عام، صارت تعاني من الغربة بحكم التقدم المواصلاتي الخرافي الذي أدى من ضمن ما أدى إلى هيمنة الصورة هيمنة لا سابق لها على مر تاريخ البشر، فضلاً عن تسهيل الإعلام بتنوع أسباب النجومية وفضاءاتها، فصارت كرة القدم مثلاً محط أنظار الأجيال، ومحج تطلعاتهم؛ لأننا إذا آمنا أن السرد حاضر في تفاصيل الحياة كلها، فسنرى أن الجملة التكتيكية التي يؤديها نجوم الكرة البارزين صارت تنافس الكثير من الأبيات الشعرية الفذة، لأن القراءة والسماع تنحيا لحساب المشاهدة، بعد هذا الإيجاز الشديد أقول: أما آن الأوان للسرد بوصفه فعلاً عظيماً في الحياة، أن يسعى لإيجاد فضاءات وطرائق كتابة تعيد له موقع الصدارة وتعفيه من المقارنة بما حوله من آليات إرسال؟ إن هذا السعي متأت من قناعة هي أن تطور أي فن من فنون الإرسال، ما كان ليلغي الفنون التي سبقته، والحال منطبق على التطورات كافة، ونأخذ مثلا آليات الانتقال والاتصال، لقد وصلت تقنيات السيارات والطائرات إلى مستويات ما كان ليصل الإنسان إلى تخيلها مهما بلغت مخيلته من الجموح، لكن الدراجة الهوائية ظلت مهمة، وتطورت وسائل الإرسال الإعلامي والفني حتى صرنا نشاهد ما يجري في أي بقعة من التي كانت تسمى المعمورة مشاهدة حية، ولكن الراديو ظل مهماً.
أسوق هذه الأمثلة لأقول: إن تنوع طرائق الإرسال التي استلزمت تنوعا في طرائق الاستلام (التلقي) تدفع بي إلى البحث عن منطقة أخرى للكتابة السردية، تعيد لها أهميتها وخصوصيتها، وتبقيها في منطقة الكتابة، والسبب هو أن فن الدراما التلفزيونية الآن، وقبله السينما سحبا الأهمية إرسالا وتلقيا من القصص والروايات، ونجحا في أن يستقطبا ملايين المشاهدين في مدة قصيرة، ما كانت الرواية أو القصة لتستطيع استقطاب قراء مماثلين، فالمطبوع مهما بلغ عدد نسخه، لا يتجاوز رقما محدودا، وكلنا نعرف أن عدد القراء في تناقص، متنحيا لحساب عدد المشاهدين، وهذا أمر طبيعي جدا؛ لأن استلام الصورة أسهل، وفي كثير من الأحيان أبلغ، وأكثر فنية بحكم التطور التقني، وأكثر إدهاشا، وإذا انبرى من يقول:
ولكن الأساس رواية، وقصة، سأقول ولكنها لم تعد مكتفية بذاتها، صارت الرواية، والقصة تحتاج إلى وسيط فني هو فن آخر، والأصح فنون أخرى وعدد كبير من الفنانين والفنيين، لتستطيع تقديم نفسها، وصار المخرجون والممثلون بصدارة المشتركين شركاء، وأصحاب اليد الطولى في الإيصال، ما أسهم إسهاما كبيرا في سيطرة الخمول والتراخي؛ لأن الصورة- مع الاعتراف بأهميتها- معطلة للتخييل، ومع هذا كله وقعت الأعمال الروائية والقصصية تحت طائلة النقصان، لأن تحولها إلى فيلم سينمائي أو مسلسل درامي، يستلزم نجاحا جديدا للمحولين منطلقه الأساس تقديم رؤية جديدة يحملها المخرج، وقبله السيناريست، فضلا عن الفريق الغني باختصاصاته كافة.
■ أصدرت أكثر من كتاب في المرواة، بماذا يتميز كتابك الجديد؟ وكيف نفهم تقنيات اشتغاله وأسلوبك فيه؟
□ الإضافة في عموراتي نوعية وتتمظهر في ناحيتين، الأولى: هي الابتعاد أكثر عن المشترك السردي على مستوى توتير اللغة واعتماد الفنون البلاغية بكثافة عالية، اعتماداً محكوماً وموجهاً بعناية فائقة مني. وأستطيع أن أستعير المصطلح القديم (التحكيك)، محجوماً بالقصدية وموجهاً بحرص صوب فرادته؛ لكي لا أكرر صياغات قديمة أو معاصرة، عنى بها كتاب كبار قبلي، فضلاً عن تنويع أشكال المتلقى بصرياً من النص بالاعتماد على تنويع المحاذاة – يميناً ويساراً وفق سياقات سيتلمسها القارئ- وتكثيف العدول بين الرواة وتماهيهم، ففي «عموراتي» تداخل الرواة، وتماهوا أحياناً كثيرة، وتوضح الرصد من «عين غيمة» وتعزز إلغاء زاوية النظر الـ (view point of) الثانية، راحتي المخيلاتي قبل النفسية بالتحرر من بقايا الرقيب المعني بالترتيب الظاهر والواضح الذي كان مشغولاً جداً بالمتلقي الخامل. في عموراتي انطلاق ودفق تسريدي حر سيتلمسه القارئ وسيعرف المسافة بينه وبين المراوي السابقة التي خطت خطوات واسعة وواثقة في هذا المجال.
■ هل يمكن عدَّ المرواة جنساً أدبياً جديداً؟
□ إن المرواة ليست جنساً أدبياً فالتجنيس تابوت وإنْ بعد حين، وكنت أصر على أنها فضاء للحكي المختلف الذي يسير على الحد الفاصل بين الشعر صورة ومخيالا، والنثر تفكيراً والقص تشكيلاً.. أسعفني بالانحراف بالحكي فهمي لطبيعة قارة وثابتة في القص العام، هي هيمنة المتن الحكائي بوصفه عموداً فقرياً مشتركاً، وحضور المبنى مؤثثاٍ مسانداً، فقلبت الأدوار، إذ إعطيت المبنى موقع المركز، وأخفيت المتن، فاختفى بعد التشظي المحمول الدلالي.. أخيراً أقول إن المرواة تريد قارئاً مدركاً، ومحاولة الفهم غير مجدية في التعامل مع النصوص التي تجترح فضاءاتها، لسبب بسيط هو أنها خرجت عن اشتراطات قياس المسطرة التي تمتثل لقياساتها النصوص الآمنة في التشابه.
■ بين البحث واﻷكاديمية والدراسة اﻹبداعية، ما المؤثرات التي تشتغل عليها؟ وكيف أثرت اﻷكاديمية في نصك اﻹبداعي وبالعكس؟
□ للأكاديمية الأثر البالغ والبارع في تشكل نصوصي، نعم إن طبيعة تكويني الشخصية لها الأثر الأول وهي الأساس الذي انطلقت منه للتمرد على الأشكال، فضلاً عن أسباب أخرى كثيرة حياتية، اجتماعية وفكرية، وتأثيرات الانقلابات الخطيرة الحادة التي حصلت في حياتي الشخصية، والعامة التي طرأت على جيلي والأجيال التي لحقته، أعود فأقول نعم للأكاديمية أثرها من حيث إثراء الوعي، وتنظيمه، وإعلامي بوضوح أين أقف الآن وإلى أين ذاهب، لا افشي سراً لو قلت لك، في بداية تسعينيات القرن الماضي عندما بدأ مشروعي وكتبت أكثر من نص كان يحمل موجها قرائيا هو (كتابة غيميارية، نسبة إلى عين الغيمة بياني الشخصي المنشور في جريدة «الحدباء» الموصلية الذي كتبته بعد عدد من النصوص، واسمي «عمار») آنذاك صارت موجة أشبه بالحمى لدى كثيرين وتكاثرت المحاولات في التجريب.

عن القدس العربي